فصل: فصل في الأحكام التي يقال عنها أنها خلاف القياس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

والأحكام التي يقال‏:‏ إنها على خلاف القياس نوعان‏:‏ نوع مجمع عليه ونوع متنازع فيه‏.‏ فما لا نزاع في حكمه تبين أنه على وفق القياس الصحيح وينبني على هذا أن مثل هذا هل يقاس عليه أم لا‏؟‏‏.‏

فذهب طائفة من الفقهاء إلى أن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه ويحكى هذا عن أصحاب أبي حنيفة‏.‏

والجمهور أنه يقاس عليه وهذا هو الذي ذكره أصحاب الشافعي و أحمد وغيرهما‏.‏ وقالوا‏:‏ إنما ينظر إلى شروط القياس فما علمت علته ألحقنا به ما شاركه في العلة سواء قيل‏:‏ إنه على خلاف القياس أو لم يقل وكذلك ما علم انتفاء الفارق فيه بين الأصل والفرع والجمع بدليل العلة كالجمع بالعلة‏.‏

وأما إذا لم يقم دليل على أن الفرع كالأصل فهذا لا يجوز فيه القياس سواء قيل‏:‏ إنه على وفق القياس أو خلافه؛ ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق بها ما كان في معناها‏.‏

وحقيقة الأمر أنه لم يشرع شيء على خلاف القياس الصحيح بل ما قيل‏:‏ إنه على خلاف القياس‏:‏ فلا بد من اتصافه بوصف امتاز به عن الأمور التي خالفها واقتضى مفارقته لها في الحكم وإذا كان كذلك فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه وإلا كان من الأمور المفارقة له‏.‏

وأما المتنازع فيه فمثل ما يأتي حديث بخلاف أمر فيقول القائلون‏:‏ هذا بخلاف القياس أو بخلاف قياس الأصول وهذا له أمثلة من أشهرها المصراة ‏;‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تصروا الإبل ولا الغنم فمن ابتاع مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر‏)‏‏.‏ وهو حديث صحيح فقال قائلون‏:‏ هذا يخالف قياس الأصول من وجوه‏:‏ منها‏:‏ أنه رد المبيع بلا عيب ولا خلف في صفة‏.‏ ومنها‏:‏ أن الخراج بالضمان فاللبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وهنا قد ضمنه‏.‏ ومنها‏:‏ أن اللبن من ذوات الأمثال فهو مضمون بمثله‏.‏ ومنها‏:‏ أن ما لا مثل له يضمن بالقيمة من النقد وهنا ضمنه بالتمر‏.‏

ومنها‏:‏ أن المال المضمون يضمن بقدره لا بقدر بدله بالشرع وهنا قدر بالشرع‏.‏ فقال المتبعون للحديث‏:‏ بل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق للأصول ولو خالفها لكان هو أصلا كما أن غيره أصل فلا تضرب الأصول بعضها ببعض بل يجب اتباعها كلها فإنها كلها من عند الله‏.‏

أما قولهم‏:‏ رد بلا عيب ولا فوات صفة فليس في الأصول ما يوجب انحصار الرد في هذين الشيئين بل التدليس نوع ثبت به الرد وهو من جنس الخلف في الصفة فإن البيع تارة تظهر صفاته بالقول وتارة بالفعل فإذا ظهر أنه على صفة وكان على خلافها فهو تدليس وقد ‏(‏أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار للركبان إذا تلقوا واشترى منهم قبل أن يهبطوا السوق ويعلموا السعر‏)‏‏.‏

وليس كذلك واحد من الأمرين ولكن فيه نوع تدليس‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏(‏الخراج بالضمان‏)‏‏.‏

فأولًا حديث المصراة أصح منه باتفاق أهل العلم مع أنه لا منافاة بينهما فإن الخراج ما يحدث في ملك المشتري ولفظ الخراج اسم للغلة‏:‏ مثل كسب العبد وأما اللبن ونحوه فملحق بذلك وهنا كان اللبن موجودًا في الضرع فصار جزءا من المبيع ولم يجعل الصاع عوضًا عما حدث بعد العقد بل عوضًا عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد وأما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع فلأن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد فتعذرت معرفة قدره فلهذا قدر الشارع البدل قطعًا للنزاع‏.‏

وقدر بغير الجنس لأن التقدير بالجنس قد يكون أكثر من الأول أو أقل فيفضي إلى الربا بخلاف غير الجنس فإنه كأنه ابتاع لذلك اللبن الذي تعذرت معرفة قدره بالصاع من التمر والتمر كان طعام أهل المدينة وهو مكيل مطعوم يقتات به كما أن اللبن مكيل مقتات وهو أيضًا يقتات به بلا صنعة بخلاف الحنطة والشعير فإنه لا يقتات به إلا بصنعة فهو أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن‏.‏

ولهذا كان من موارد الاجتهاد أن جميع الأمصار يضمنون ذلك بصاع من تمر أو يكون ذلك لمن يقتات التمر فهذا من موارد الاجتهاد كأمره في صدقة الفطر بصاع من شعير أو تمر‏.‏

ومن ذلك قول بعضهم إن أمره للمصلي خلف الصف وحده بالإعادة على خلاف القياس ، فإن الإمام يقف وحده والمرأة تقف خلف الرجال وحدها كما جاءت به السنة وليس الأمر كذلك فإن الإمام يسن في حقه التقدم بالاتفاق والمؤتمون يسن في حقهم الاصطفاف بالاتفاق فكيف يشبه هذا بهذا وذلك لأن الإمام يؤتم به فإذا كان أمامهم رأوه وكان اقتداؤهم به أكمل‏.‏

وأما المرأة فإنها تقف وحدها إذا لم يكن هناك امرأة غيرها فالسنة في حقها الاصطفاف لكن قضية المرأة تدل على شيئين تدل على أنه إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه، وتعذر الدخول في الصف، صلى وحده للحاجة‏.‏

وهذا هو القياس فإن الواجبات تسقط للحاجة وأمره بأن يصاف غيره من الواجبات فإذا تعذر ذلك سقط للحاجة، كما سقط غير ذلك من فرائض الصلاة للحاجة، في مثل صلاة الخوف محافظة على الجماعة وطرد ذلك إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة، إلا قدام الإمام، فإنه يصلي هنا لأجل الحاجة أمامه‏.‏

وهو قول طوائف من أهل العلم وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وإن كانوا لا يجوزون التقدم على الإمام، إذا أمكن ترك التقدم عليه ‏.‏

وفي الجملة فليست المصافة أوجب من غيرها فإذا سقط غيرها للعذر في الجماعة فهي أولى بالسقوط ومن الأصول الكلية‏.‏

إن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب وإن المضطر إليه بلا معصية غير محظور فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد ولم يحرم ما يضطر إليه العبد‏.‏

ومن ذلك قول بعضهم في الحديث الصحيح الذي فيه إن الرهن مركوب ومحلوب وعلى الذي يركب ويحلب النفقة أنه على خلاف القياس وليس كذلك فإن الرهن إذا كان حيوانًا فهو محترم في نفسه ولمالكه فيه حق وللمرتهن فيه حق‏.‏

وإذا كان بيد المرتهن فلم يركب ولم يحلب ذهبت منفعته باطلة وقد قدمنا أن اللبن يجري مجرى المنفعة فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض عنها نفقته كان في هذا جمع بين المصلحتين، وبين الحقين فإن نفقته واجبة على صاحبه ‏.‏

والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبًا وله فيه حق فله أن يرجع ببدله والمنفعة تصلح أن تكون بدلاً فأخذها خير من أن تذهب على صاحبها وتذهب باطلًا وقد تنازع الفقهاء فيمن أدى عن غيره واجبًا بغير إذنه كالدين فمذهب مالك و أحمد في المشهور عنه له أن يرجع به عليه ومذهب أبي حنيفة والشافعي ليس له ذلك وإذا أنفق نفقة تجب عليه مثل‏:‏ أن ينفق على ولده الصغير، أو عبده فبعض أصحاب أحمد قال لا يرجع وفرقوا بين النفقة والدين‏.‏

والمحققون من أصحابه سووا بينهما وقالوا الجميع واجب ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليست دينًا والقرآن يدل على هذا القول فإن الله قال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع، ولم يشترط عقدًا ولا إذن الأب‏.‏

وكذلك قال‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏‏.‏

فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدًا ولا إذنًا‏.‏

ونفقة الحيوان واجبة على ربه والمرتهن والمستأجر له فيه حق فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده فإذا قدر أن الراهن قال‏:‏ لم آذن لك في النفقة، قال‏:‏ هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر وإذا كان المنفق قد رضي بأن يعتاض بمنفعة الرهن التي لا يطالبه بنظير النفقة كان قد أحسن إلى صاحبه فهذا خير محض مع الراهن‏.‏

وكذلك لو قدر أن المؤتمن على حيوان الغير كالمودع، والشريك، والوكيل، أنفق من مال نفسه واعتاض بمنفعة المال؛ لأن هذا إحسان إلى صاحبه، إذا لم ينفق عليه صاحبه ومما يقال‏:‏ إنه أبعد الأحاديث عن القياس الحديث الذي في السنن عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها‏.‏

وقد روي في لفظ آخر وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها وهذا الحديث تكلم بعضهم في إسناده لكنه حديث حسن وهم يحتجون بما هو دونه في القوة ولكن لإشكاله قوي عندهم تضعيفه‏.‏

وهذا الحديث يستقيم على القياس مع ثلاثة أصول هي صحيحة كل منها قول طائفة من الفقهاء أحدها أن من غير مال غيره بحيث يفوت مقصودة عليه فله أن يضمنه إياه بمثله وهذا كما إذا تصرف في المغصوب بما أزال اسمه‏.‏

ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره أحدها‏:‏ أنه باق على ملك صالحبه وعلى الغاصب ضمان النقص ولا شيء له في الزيادة كقول الشافعي، والثاني‏:‏ يملكه الغاصب بذلك ويضمنه لصاحبه، كقول أبي حنيفة والثالث‏:‏ يخير المالك بين أخذه وتضمين النقص وبين المطالبة بالبدل وهذا أعدل الأقوال وأقواها فإن فوت صفاته المعنوية مثل أن ينسيه صناعته أو يضعف قوته أو يفسد عقله ودينه فهذا أيضًا يخير المالك بين تضمين النقص وبين المطالبة بالبدل ولو قطع ذنب بغلة القاضي فعند مالك يضمنها بالبدل ويملكها لتعذر مقصودها على المالك في العادة أو يخير المالك وكذلك السلطان إذا قطع آذان فرسة وذنبها الأصل‏.‏

الثاني‏:‏ أن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة حتى الحيوان، كما أنه في القرض يجب فيه رد المثل وإذا اقترض حيوانًا رد مثله كما اقترض النبي صلى الله عليه وسلم بكرًا ورد خيرًا منه ‏.‏

وكذلك في المغرور يضمن ولده بمثلهم كما قضت به الصحابة، وكذلك إذا استثنى رأس المبيع ولم يذبحه فإن الصحابة قضوا بشرائه أي برأس مثله في القيمة وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏

وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب فإن الماشية كانت قد اتلفت حرث القوم وهو بستانهم قالوا وكان عينًا، والحرث اسم للشجر والزرع فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأنه ضمنهم ذلك بالقيمة ولم يكن لهم مال إلا الغنم فأعطاهم الغنم بالقيمة‏.‏ وأما سليمان فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمنهم إياه بالمثل وأعطاهم الماشية يأخذون منفعتها عوضًا عن المنفعة التي فاتت من حين تلف الحرث إلى أن يعود وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز فيمن كان أتلف له شجرًا فقال يغرسه حتى يعود كما كان وقيل ربيعة وأبو الزناد قالا عليه القيمة فغلظ الزهري القول فيهما وهذا موجب الأدلة فإن الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الإمكان قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏‏.‏

فإذا أتلف نقدًا أو حبوبًا ونحو ذلك أمكن ضمانها بالمثل وإن كان المتلف ثيابًا أو آنية أو حيوانًا فهنا مثله من كل وجه‏.‏

وقد يتعذر فالأمر دائر بين شيئين إما أن يضمنه بالقيمة وهي دراهم مخالفة للمتلف في الجنس والصفة لكنها تساويه في المالية، وإما أن يضمنه بثياب من جنس ثياب المثل أو آنية من جنس آنيته، أو حيوان من جنس حيوانه مع مراعاة القيمة بحسب الإمكان، ومع كون قيمته بقدر قيمته فهنا المالية مساوية كما في النقد وامتاز هذا بالمشاركة في الجنس والصفة فكان ذلك أمثل من هذا وما كان أمثل فهو أعدل، فيجب الحكم به إذا تعذر المثل من كل وجه ونظير هذا ما ثبت بالسنة واتفاق الصحابة من القصاص في اللطمة والضربة وهو قول كثير من السلف وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها الجوزجاني في كتابه المسمى بالمترجم فقال طائفة من الفقهاء‏:‏ المساواة متعذرة في ذلك فيرجع إلى التعزير فيقال‏:‏ لهم ما جاءت به الآثار هو موجب القياس فإن التعزير عقاب غير مقدر الجنس ولا الصفة ولا القدر والمرجع فيه إلى اجتهاد الوالي ‏.‏

ومن المعلوم الأمر بضرب يقارب ضربة وإن لم يعلم أنه مساو له أقرب إلى العدل والمماثلة من عقوبة تخالفه في الجنس والوصف غير مقدرة أصلًا‏.‏

واعلم أن المماثل من كل وجه متعذر حتى في المكيلات فضلاً عن غيرها فإنه إذا أتلف صاعًا من بر فضمن بصاع من بر لم يعلم أن أحد الصاعين فيه من الحب ما هو مثل الآخر بل قد يزيد أحدهما على الآخر ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏

فإن تحديد الكيل والوزن مما قد يعجز عنه البشر ولهذا يقال هذا أمثل من هذا إذا كان أقرب إلى المماثلة منه إذا لم تحصل المماثلة من كل وجه الأصل الثالث من مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب مالك و أحمد وغيرهما وقد جاءت بذلك آثار مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كعمر بن الخطاب كما قد ذكر في غير هذا الموضع فهذا الحديث موافق لهذه الأصول الثلاثة الثابتة بالأدلة الموافقة للقياس العادل‏.‏

فإذا طاوعته فقد افسدها على سيدها فإنها مع المطاوعة تبقى زانية وذلك ينقص قيمتها ولا يمكن سيدها من استخدامها كما كانت تمكن قبل ذلك لبغضه لها ولطمع الجارية في السيد ولاستشراف السيد إليها لا سيما ويعسر على سيدها فلا يطيعها كما كانت تطيعه وإذا تصرف بالمال بما ينقص قيمته كان لصاحبه المطالبة بالمثل فقضى لها بالمثل ومعلوم أنها لو رضيت أن تبقى ملكًا لها وتغرمه ما نقص من قيمتها لم يمتنع من ذلك وإنما المقضي به ما أبيح لها ولكن موجب هذا أن الأمة إذا أفسدها رجل على أهلها حتى طاوعت على الزنا، فلأهلها أن يطالبوه ببدلها ووجب مثلها بناء على أن المثل يجب في كل مضمون بحسب الإمكان وأما إذا استكرهها فإن هذا من ‏[‏باب المثلة‏]‏‏.‏

فإن الإكراه على الوطء مثلة فإن الوطء يجري مجرى الإتلاف، ولهذا قيل‏:‏ إن من استكره عبده على التلوط به عتق عليه؛ ولهذا لا يخلو من عقر أو عقوبة لا تجري مجرى منفعة الخدمة فهي لما صارت له بإفسادها على سيدها، أوجب عليه مثلها كما في المطاوعة وأعتقها عليه لكونه مثل بها وقد يقال‏:‏ إنه يلزم على هذا إذا استكره عبده على الفاحشة عتق عليه ولو استكره أمة الغير على الفاحشة عتقت وضمنها بمثلها إلا أن يفرق بين أمة امرأته وبين غيرها، فإن كان بينهما فرق شرعي وإلا فموجب القياس التسوية‏.‏

وأما قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَاتُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏‏.‏

فهذا النهي عن إكراههن على كسب المال بالبغاء كما نقل أن ابن أبي المنافق كان له من الإماء ما يكرههن على البغاء وليس هو استكراهًا للأمة على أن يزني هو بها، فإن هذا بمنزلة التمثيل بها وذاك إلزام لها بأن تذهب فتزني بنفسها مع أنه قد يمكن أن يقال العتق بالمثلة لم يكن مشروعًا عند نزول الآية ثم شرع بعد ذلك‏.‏

والكلام على هذا الحديث من أدق الأمور فإن كان ثابتًا فهذا الذي ظهر في توجيهه وتخرجه على الأصول الثابتة وإن لم يكن ثابتًا فلا يحتاج إلى الكلام عليه وبالجملة فما عرفت حديثًا صحيحًا إلا ويمكن تخرجه على الأصول الثابتة‏.‏

وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسًا صحيحًا يخالف حديثًا صحيحًا كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح بل متى رأيت قياسًا يخالف أثرًا فلا بد من ضعف أحدهما لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفي كثير منه على أفاضل العلماء فضلاً عمن هو دونهم فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها ومعرفة الحكم المعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف المعلوم فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفًا للنصوص لخفاء القياس الصحيح عليهم كما يخفي على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام‏.‏

 فصل وأما قولهم‏:‏ إن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس فليس الأمر كذلك فإن الله أمر بإتمام الحج والعمرة فعلى من شرع فيهما أن يمضي فيهما وإن كان متطوعًا بالدخول باتفاق الأئمة وهم متنازعون فيما سوى ذلك من التطوعات‏:‏ هل تلزم بالشروع‏؟‏ فقد وجب عليه بالإحرام أن يمضي إلى حين يتحلل وأن لا يطأ في الحج فإذا وطئ في الحج لم يمنع وطؤه ما وجب عليه من إتمام الحج‏.‏

ونظير هذا الصيام في رمضان لما وجب عليه الإتمام بقوله‏:‏ ‏{‏ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

فإذا أفطر لم يسقط عنه فطره ما وجب من الإتمام بل يجب عليه إتمام صوم رمضان وإن أفسده وهذا لأن الصيام له حد محدود وهو غروب الشمس كما للحج وقت مخصوص وهو يوم عرفة وما بعده ومكان مخصوص وهو عرفة ومزدلفة ومنى فلا يمكنه إحلال الحج قبل وصوله إلى مكانه كما لا يمكنه إحلال الصيام اللهم إلا إذا كان معذورًا كالمحصر فهذا كالمعذور في الفطر وهذا بخلاف الصلاة إذا أفسدها فإنه يبتديها ‏;‏ لأن الصلاة يمكنه فعلها في أثناء الوقت والحج لا يمكنه فعله في أثناء الوقت‏.‏

 فصل وأما الأكل ناسيًا ‏;‏ فالذين قالوا‏:‏ هو خلاف القياس قالوا‏:‏ هو من باب ترك المأمور ومن ترك المأمور ناسيًا لم تبرأ ذمته كما لو ترك الصلاة ناسيًا، أو ترك نية الصيام ناسيًا لم تبطل عبادته إلا من فعل محظور ولكن من يقول‏:‏ هو على وفق القياس يقول‏:‏ القياس أن من فعل محظورًا ناسيًا لم تبطل عبادته ‏;‏ لأن من فعل محظورًا ناسيًا فلا إثم عليه كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

وقد ثبت في الصحيح أن الله قال‏:‏ ‏(‏قد فعلت‏)‏‏.‏

وهذا مما لا يتنازع فيه العلماء أن الناسي لا يأثم‏.‏ لكن يتنازعون في بطلان عبادته فيقول القائل إذا لم يأثم لم يكن قد فعل محرمًا ومن لم يفعل محرمًا لم تبطل عبادته فإن العبادة إنما تبطل بترك واجب أو فعل محرم فإذا كان ما فعله من باب فعل المحرم وهو ناس فيه لم تبطل عبادته‏.‏

وصاحب هذا القول يقول‏:‏ القياس أن لا تبطل الصلاة بالكلام في الصلاة ناسيًا وكذلك يقول‏:‏ القياس أن من فعل شيئًا من محظورات الإحرام ناسيًا لا فدية عليه‏.‏ وقيل‏:‏ الصيد هو من باب ضمان المتلفات كدية المقتول ‏;‏ بخلاف الطيب واللباس فإنه من باب الترفه وكذلك الحلق والتقليم هو في الحقيقة من باب الترفه لا من باب متلف له قيمة فإنه لا قيمة لذلك؛ فلهذا كان أعدل الأقوال أن لا كفارة في شيء من ذلك إلا في جزاء الصيد‏.‏

وطرد هذا أن من فعل المحلوف عليه ناسيًا لا يحنث ‏;‏ سواء حلف بالطلاق أو العتاق أو غيرهما لأن من فعل المنهي عنه ناسيًا لم يعص ولم يخالف والحنث في الأيمان كالمعصية في الأمر والنهي‏.‏

وكذلك من باشر النجاسة في الصلاة ناسيًا فلا إعادة عليه ‏;‏ لأنه من باب فعل المحظور ‏;‏ بخلاف ترك طهارة الحدث فإنه من باب المأمور‏.‏

فإن قيل‏:‏ الترك في الصوم مأمور به ‏;‏ ولهذا يشترط فيه النية ‏;‏ بخلاف الترك في هذه المواضع فإنه ليس مأمورًا به ‏;‏ فإنه لا يشترط فيه النية‏.‏

قيل‏:‏ لا ريب أن النية في الصوم واجبة ولولا ذلك لما أثيب ‏;‏ لأن الثواب لا يكون إلا مع النية وتلك الأمور إذا قصد تركها لله أثيب على ذلك أيضًا وإن لم يخطر بقلبه قصد تركها لم يثب ولم يعاقب ولو كان ناويا تركها لله وفعله ناسيا لم يقدح نسيانه في أجره بل يثاب على قصد تركها لله وإن فعلها ناسيا كذلك الصوم فإنما يفعله الناسي لا يضاف إليه بل فعله الله به من غير قصده ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه‏)‏‏.‏

فأضاف إطعامه وإسقاءه إلى الله لأنه لم يتعمد ذلك ولم يقصده وما يكون مضافًا إلى الله لا ينهى عنه العبد فإنما ينهى عن فعله والأفعال التي ليست اختيارية لا تدخل تحت التكليف ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير ‏;‏ ونحو ذلك‏.‏

يبين ذلك أن الصائم إذا احتلم في منامه لم يفطر ‏;‏ ولو استمنى باختياره أفطر ولو ذرعه القيء لم يفطر ولو استدعى القيء أفطر‏.‏

فلو كان ما يوجد بغير قصده بمنزلة ما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالمخطئ يفطر مثل من يأكل يظن بقاء الليل ثم تبين أنه طلع الفجر ‏;‏ أو يأكل يظن غروب الشمس ثم تبين له أن الشمس لم تغرب‏.‏ قيل‏:‏ هذا فيه نزاع بين السلف والخلف والذين فرقوا بين الناسي والمخطئ قالوا‏:‏ هذا يمكن الاحتراز منه بخلاف النسيان وقاسوا ذلك على ما إذا أفطر يوم الشك ثم تبين أنه من رمضان ونقل عن بعض السلف أنه يقضي في مسألة الغروب دون الطلوع ‏;‏ كما لو استمر الشك‏.‏

والذين قالوا‏:‏ لا يفطر في الجميع قالوا‏:‏ حجتنا أقوى ودلالة الكتاب والسنة على قولنا أظهر ‏;‏ فإن الله قال‏:‏ ‏{‏ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

فجمع بين النسيان والخطأ ‏;‏ ولأن من فعل المحظورات الحج والصلاة مخطئًا كمن فعلها ناسيًا وقد ثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس ولم يذكروا في الحديث أنهم أمروا بالقضاء ولكن هشام بن عروة قال‏:‏ لا بد من القضاء وأبوه أعلم منه وكان يقول‏:‏ لا قضاء عليهم‏.‏ وثبت في الصحيحين أن طائفة من الصحابة‏:‏ ‏(‏كانوا يأكلون حتى يظهر لأحدهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهم‏:‏ إن وسادك لعريض إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل‏)‏‏.‏ ولم ينقل أنه أمرهم بقضاء وهؤلاء جهلوا الحكم فكانوا مخطئين‏.‏ وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر ثم تبين النهار فقال‏:‏ لا نقضي فإنا لم نتجانف لإثم‏.‏

وروي عنه أنه قال‏:‏ نقضي ‏;‏ ولكن إسناد الأول أثبت وصح عنه أنه قال‏:‏ الخطب يسير‏.‏ فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء لكن اللفظ لا يدل على ذلك‏.‏

وفي الجملة فهذا القول أقوى أثرًا ونظرًا وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس وبه يظهر أن القياس في الناسي أنه لا يفطر والأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة أن من فعل محظورًا ناسيًا لم يكن قد فعل منهيًا عنه ‏;‏ فلا يبطل بذلك شيء من العبادات ولا فرق بين الوطء وغيره سواء كان في إحرام أو صيام‏.‏

 فصل

وأما قول القائل‏:‏ إنهم يقولون ذلك فيما يروي عن بعض الصحابة فهذا باب واسع والذي يلتزمه إنما كان من أقوال الصحابة فقال بعضهم بقول وقال بعضهم بخلافهم فقد يكون أحد القولين مخالفا للقياس الصحيح بل وللنص الصريح‏.‏

والذي لا ريب فيه أنه حجة ما كان من سنة الخلفاء الراشدين الذي سنوه للمسلمين ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفهم فيه فهذا لا ريب أنه حجة بل إجماع‏.‏ وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏

مثال ذلك حبس عمر وعثمان رضي الله عنهما للأرضين المفتوحة وترك قسمتها على الغانمين‏.‏

فمن قال‏:‏ إن هذا لا يجوز قال‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر وقال‏:‏ إن الإمام إذا حبسها نقض حكمه لأجل مخالفة السنة فهذا القول خطأ وجرأة على الخلفاء الراشدين ‏;‏ فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر إنما يدل على جواز ما فعله لا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل يدل على عدم وجوب ذلك لكان فعل الخلفاء الراشدين دليلا على عدم الوجوب ‏;‏ فكيف وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة ‏;‏ بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير‏؟‏ فإنه قدم حين نقضوا العهد ونزل بمر الظهران ولم يأت أحد منهم يصالحه ولا أرسل إليهم أحدًا يصالحهم بل خرج أبو سفيان يتجسس الأخبار فأخذه العباس وقدم به كالأسير وغايته أن يكون العباس أمنه فصار مستأمنا ثم أسلم فصار من المسلمين فكيف يتصور أن يعقد عقد صلح الكفار بعد إسلامه بغير إذن منهم‏؟‏ مما يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الأمان بأسباب كقوله‏:‏ ‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏.‏ فأمن من لم يقاتله فلو كانوا معاهدين لم يحتاجوا إلى ذلك وأيضًا فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم طلقاء ‏;‏ لأنه أطلقهم بعد القدرة عليهم كما يطلق الأسير فصاروا بمنزلة من أطلقهم من الأسر كثمامة بن أثال وغيره وأيضًا فإنه أذن في قتل جماعة منهم من الرجال والنساء‏.‏ وأيضًا فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال في خطبته‏:‏ ‏(‏إن مكة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار‏)‏‏.‏

ودخل مكة وعلى رأسه المغفر لم يدخلها بإحرام فلو كانوا قد صالحوه لم يكن قد أحل له شيء كما لو صالح مدينة من مدائن الحل لم تكن قد أحلت فكيف يحل له البلد الحرام وأهله مسالمون له صلح معه‏؟‏ وأيضًا فقد قاتلوا خالدًا وقتل طائفة منهم‏.‏

وفي الجملة‏:‏ من تدبر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أن مكة فتحت عَنْوَة ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها ففتح خيبر عنوة وقسمها وفتح مكة عنوة ولم يقسمها فعلم جواز الأمرين‏.‏

والأقوال في هذا الباب ثلاثة‏:‏ إما وجوب قسم العقار كقول الشافعي ‏;‏ وإما تحريم قسمه ووجوب تحبيسه كقول مالك ‏;‏ وإما التخيير بينهما كقول الأكثرين‏:‏ الثوري وأبي حنيفة ‏;‏ وأبي عبيد‏.‏ وهو ظاهر مذهب أحمد وعنه كالقولين الأولين‏.‏ ومن أشكل ما أشكل على الفقهاء من أحكام الخلفاء الراشدين‏:‏ امرأة المفقود ‏;‏ فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه لما أجل امرأته أربع سنين وأمرها أن تتزوج بعد ذلك ‏;‏ ثم قدم المفقود خيره عمر بين امرأته وبين مهرها وهذا مما اتبعه فيه الإمام أحمد وغيره‏.‏

وأما طائفة من متأخرى أصحابه فقالوا‏:‏ هذا يخالف القياس والقياس أنها باقية على نكاح الأول إلا أن نقول‏:‏ الفرقة تنفذ ظاهرًا وباطنًا فهي زوجة الثاني والأول قول الشافعي والثاني قول مالك‏.‏ وآخرون أسرفوا في إنكار هذا حتى قالوا‏:‏ لو حكم حاكم بقول عمر لنقض حكمه ‏;‏ لبعده عن القياس‏.‏

وآخرون أخذوا ببعض قول عمر وتركوا بعضه فقالوا‏:‏ إذا تزوجت فهي زوجة الثاني وإذا دخل بها الثاني فهي زوجته ولا ترد إلى الأول‏.‏

ومن خالف عمر لم يهتد إلى ما اهتدى إليه عمر ولم يكن له من الخبرة بالقياس الصحيح مثل خبرة عمر ‏;‏ فإن هذا مبني على أصل وهو وقف العقود إذا تصرف الرجل في حق الغير بغير إذنه‏:‏ هل يقع تصرفه مردودًا أو موقوفا على إجازته‏؟‏ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد ‏:‏ أحدهما‏:‏ الرد في الجملة على تفصيل عنه والرد مطلقا قول الشافعي‏.‏ والثاني‏:‏ أنه موقوف ‏;‏ وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهذا في النكاح والبيع والإجارة وغير ذلك فظاهر مذهب أحمد أن المتصرف إذا كان معذورا لعدم تمكنه من الاستئذان وحاجته إلى التصرف وقف على الإجازة بلا نزاع وإن أمكنه الاستئذان أو لم يكن به حاجة إلى التصرف ففيه النزاع فالأول مثل من عنده أموال لا يعرف أصحابها كالغصوب والعواري ونحوهما إذا تعذرت عليه معرفة أرباب الأموال ويئس منها ‏;‏ فإن مذهب أبي حنيفة ومالك و أحمد أنه يتصدق به عنهم فإن ظهروا بعد ذلك كانوا مخيرين بين الإمضاء وبين التضمين وهذا مما جاءت به السنة في اللقطة ‏;‏ فإن الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرف فيها ثم إن جاء صاحبها كان مخيرًا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها فهو تصرف موقوف ‏;‏ لكن تعذر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرف‏.‏

وكذلك الموصى بما زاد على الثلث وصيته موقوفة على إجازة الورثة عند الأكثرين وإنما يخيرون عند الموت ففي المفقود المنقطع خبره إن قيل‏:‏ إن امرأته تبقى إلى أن يعلم خبره‏:‏ بقيت لا أيما ولا ذات زوج إلى أن تصير عجوزا وتموت ولم تعلم خبره والشريعة لم تأت بمثل هذا‏.‏ فلما أجلت أربع سنين ولم ينكشف خبره حكم بموته ظاهرا‏.‏ وإن قيل‏:‏ إنه يسوغ للإمام أن يفرق بينهما للحاجة فإنما ذلك لاعتقاده موته وإلا فلو علم حياته لم يكن مفقودًا كما ساغ التصرف في الأموال التي تعذر معرفة أصحابها فإذا قدم الرجل تبين أنه كان حيا كما إذا ظهر صاحب المال والإمام قد تصرف في زوجته بالتفريق فيبقى هذا التفريق موقوفًا على إجازته فإن شاء أجاز ما فعله الإمام وإذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه‏.‏

ولو أذن للإمام أن يفرق بينهما ففرق وقعت الفرقة بلا ريب وحينئذ فيكون نكاح الأول صحيحًا‏.‏ وإن لم يجز ما فعله الإمام كان التفريق باطلًا من حين اختار امرأته لا ما قبل ذلك بل المجهول كالمعدوم كما في اللقطة فإنه إذا ظهر مالكها لم يبطل ما تقدم قبل ذلك وتكون باقية على نكاحه من حين اختارها ‏;‏ فتكون زوجته فيكون القادم مخيرا بين إجازة ما فعله الإمام ورده وإذا أجازه فقد أخرج البضع عن ملكه‏.‏

وخروج البضع من ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك والشافعي و أحمد في أنص الروايتين عنه وهو مضمون بالمسمى كما يقوله مالك و أحمد في إحدى الروايتين عنه والشافعي يقول‏:‏ هو مضمون بمهر المثل والنزاع بينهم فيما إذا شهد شهود أنه طلق امرأته ورجعوا عن الشهادة فقيل‏:‏ لا شيء عليهم‏:‏ بناء على أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم وهو قول أبي حنيفة و أحمد في إحدى الروايتين ‏;‏ اختارها متأخرو أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأصحابه وقيل‏:‏ عليهم مهر المثل وهو قول الشافعي وهو وجه في مذهب أحمد وقيل‏:‏ عليهم المسمى وهو مذهب مالك وهو أشهر في نصوص أحمد وقد نص على ذلك فيما إذا أفسد نكاح امرأته برضاع أنه يرجع بالمسمى والكتاب والسنة دلا على هذا القول ففي سورة الممتحنة في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وهذا المسمى دون مهر المثل وكذلك ‏(‏أمر النبي صلى الله عليه وسلم زوج المختلعة أن يأخذ ما أعطاها‏)‏‏.‏ ولم يأمر بمهر المثل وهو إنما يأمر في المعاوضات المطلقة بالعدل وهو مبسوط في غير هذا الموضع فقصة عمر تنبني على هذا‏.‏

والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة ولم يعلم أن أحدًا أنكر ذلك مثل قصة ابن مسعود في صدقته عن سيد الجارية، التي ابتاعها بالثمن الذي كان له عليه في ذمته؛ لما تعذرت عليه معرفته وكتصدق الغالّ بالمال المغلول لما تعذر قسمته بين الجيش ‏;‏ وإقرار معاوية على ذلك‏.‏ وغير ذلك من القضايا مع أن القول بوقف العقود مطلقًا هو الأظهر في الحجة وهو قول الجمهور وليس ذلك إضرارًا أصلاً بل صلاح بلا فساد فإن الرجل قد يرى أن يشتري لغيره أو يبيع له أو يستأجر له أو يوجب له ثم يشاوره فإن رضي وإلا فلم يصبه ما يضره وكذلك في تزويج موليته ونحو ذلك‏.‏

وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه فمسألة المفقود هي مما يقف فيها تعريف الإمام على إذن الزوج إذا جاء كما يقف تصرف الملتقط على إذن المالك إذا جاء والقول برد المهر إليه لخروج امرأته من ملكه ولكن تنازعوا في المهر الذي يرجع به‏:‏ هل هو ما أعطاها هو أو ما أعطاها الثاني‏؟‏ وفيه روايتان عن أحمد ‏.‏ والصواب أنه إنما يرجع بمهره هو ‏;‏ فإنه الذي استحقه وأما المهر الذي أصدقها الثاني فلا حق له فيه‏.‏

وإذا ضمن الأول الثاني المهر فهل يرجع به عليها‏؟‏ فيه روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ يرجع لأنها التي أخذته والثاني قد أعطاها المهر الذي عليه فلا يضمن مهرين ‏;‏ بخلاف المرأة فإنها لما اختارت فراق الأول ونكاح الثاني فعليها أن ترد المهر ‏;‏ لأن الفرقة جاءت منها‏.‏

والثانية‏:‏ لا يرجع ‏;‏ لأن المرأة تستحق المهر بما استحل من فرجها والأول يستحق المهر لخروج البضع من ملكه فكان على الثاني مهران‏.‏

وهذا المأثور عن عمر في ‏[‏مسألة المفقود‏]‏ هو عند طائفة من أئمة الفقهاء من أبعد الأقوال عن القياس حتى قال من أئمة الفقهاء فيه ما قال وهو مع هذا أصح الأقوال وأجراها على القياس وكل قول قيل سواه فهو خطأ فمن قال‏:‏ إنها تعاد إلى الأول وهو لا يختارها ولا يريدها وقد فرق بينه وبينها تفريقًا سائغًا في الشرع وأجاز هو ذلك التفريق فإنه وإن كان الإمام تبين أن الأمر بخلاف ما اعتقده فالحق في ذلك للزوج فإذا أجاز ما فعله الإمام زال المحذور‏.‏

وأما كونها زوجة الثاني بكل حال مع ظهور زوجها وتبين الأمر بخلاف ما فعل فهو خطأ أيضًا فإنه لم يفارق امرأته وإنما فرق بينهما بسبب ظهر أنه لم يكن كذلك وهو يطلب امرأته فكيف يحال بينهما‏؟‏ وهو لو طلب ماله أو بدله رد إليه فكيف لا ترد إليه امرأته وأهله أعز عليه من ماله‏؟‏ وإن قيل‏:‏ تعلق حق الثاني بها قيل‏:‏ حقه سابق على حق الثاني وقد ظهر انتقاض السبب الذي به استحق الثاني أن تكون زوجة له وما الموجب لمراعاة حق الثاني دون حق الأول‏.‏

فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وإذا ظهر صواب الصحابة في مثل هذه المشكلات التي خالفهم فيها مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي فلأن يكون الصواب معهم فيما وافقهم فيه هؤلاء بطريق الأولى وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها واعتبر هذا بمسائل الأيمان بالنذر والعتق والطلاق وغير ذلك ومسائل تعليق الطلاق بالشروط ونحو ذلك وقد بينت فيما كتبته أن المنقول فيها عن الصحابة هو أصح الأقوال قضاء وقياسا وعليه يدل الكتاب والسنة وعليه يدل القياس الجلي وكل قول سوى ذلك تناقض في القياس مخالف للنصوص‏.‏

وكذلك في مسائل غير هذه مثل مسألة ابن الملاعنة ومسألة ميراث المرتد‏.‏ وما شاء الله من المسائل لم أجد أجود الأقوال فيها إلا الأقوال المنقولة عن الصحابة‏.‏ وإلى ساعتي هذه ما علمت قولا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا وكان القياس معه لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده ‏;‏ وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد ‏;‏ وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ‏;‏ وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة ‏;‏ والعدل التام‏.‏ والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب‏.‏

 وسئل رحمه الله هل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة‏:‏ كحماد بن أبي سليمان وابن المبارك وسفيان الثوري والأوزاعي وقد قال عنهم رجل - أعني هؤلاء الأئمة المذكورين - هؤلاء لا يلتفت إليهم‏.‏ فصاحب هذا الكلام ما حكمه‏؟‏ ‏.‏ فأجاب‏:‏ وأما الأئمة المذكورون فمن سادات أئمة الإسلام ‏;‏ فإن الثوري إمام أهل العراق وهو عند أكثرهم أجل من أقرانه كابن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حي وأبي حنيفة وغيره وله مذهب باق إلى اليوم بأرض خراسان‏.‏ والأوزاعي إمام أهل الشام وما زالوا على مذهبه إلى المائة الرابعة بل أهل المغرب كانوا على مذهبه قبل أن يدخل إليهم مذهب مالك وحماد بن أبي سليمان هو شيخ أبي حنيفة‏.‏ ومع هذا فهذا القول هو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما‏.‏ ومذهبه باق إلى اليوم وهو مذهب داود بن على وأصحابه‏.‏ ومذهبهم باق إلى اليوم فلم يجمع الناس اليوم على خلاف هذا القول ‏;‏ بل القائلون به كثير في المشرق والمغرب ليس في الكتاب والسنة فرق في الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص‏.‏ فمالك والليث بن سعد والأوزاعي والثوري‏:‏ هؤلاء أئمة في زمانهم وتقليد كل منهم كتقليد الآخر ‏;‏ لا يقول مسلم إنه يجوز تقليد هذا دون هذا ولكن من منع من تقليد أحد هؤلاء في زماننا فإنما يمنعه لأحد شيئين‏.‏

أحدهما اعتقاده أنه لم يبق من يعرف مذاهبهم وتقليد الميت فيه نزاع مشهور‏.‏ فمن منعه قال هؤلاء موتى ومن سوغه قال لا بد أن يكون في الأحياء من يعرف قول الميت‏.‏

والثاني أن يقول‏:‏ الإجماع اليوم قد انعقد على خلاف هذا القول وينبني ذلك على مسألة معروفة في أصول الفقه وهي أن الصحابة مثلا أو غيرهم من أهل الأعصار إذا اختلفوا في مسألة على قولين ثم أجمع التابعون أو أهل العصر الثاني على أحدهما فهل يكون هذا إجماعا يرفع ذلك الخلاف‏؟‏ وفي المسألة نزاع مشهور في مذهب أحمد وغيره من العلماء‏.‏ فمن قال‏:‏ إن مع إجماع أهل العصر الثاني لا يسوغ الأخذ بالقول الآخر واعتقد أن أهل العصر أجمعوا على ذلك يركب من هذين الاعتقادين المنع‏.‏

ومن علم أن الخلاف القديم حكمه باق ‏;‏ لأن الأقوال لا تموت بموت قائلها‏:‏ فإنه يسوغ الذهاب إلى القول الآخر للمجتهد الذي وافق اجتهاده وأما التقليد فينبني على مسألة تقليد الميت وفيها قولان مشهوران أيضًا في مذهب الشافعي و أحمد وغيرهما‏.‏

وأما إذا كان القول الذي يقول به هؤلاء الأئمة أو غيرهم قد قال به بعض العلماء الباقية مذاهبهم فلا ريب أن قوله مؤيد بموافقة هؤلاء ويعتضد به ويقابل بهؤلاء من خالفه من أقرانهم‏:‏ فيقابل بالثوري والأوزاعي أبا حنيفة ومالكا ‏;‏ إذ الأمة متفقة على أنه إذا اختلف مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة لم يجز أن يقال قول هذا هو صواب دون هذا إلا بحجة‏.‏ والله أعلم‏.‏

آخر المجلد العشرين